"الترجمة المعجزة"
كنتُ أستمع لتلاوة من سورة يوسف في حواره مع أبيه عليهما السلام، ثم حوار إخوته للإيقاع به، فوجدتني معجبا بكلام كل واحد في موقعه وحالته. ((عن اللغة أتحدث))
تنقلَتْ ذاكرتي بين حوارات قصصية كثيرة وردتْ في القرآن، فهذا إبراهيم عليه السلام يحاور قومه، ويحاور طاغية أعمته السُّلطة فظنَّ أنه يحيي ويميت، وهذا سليمان يكلمه الهدهد بلغة واثقة بليغة، وهذه الملائكة وما على كلامها من مِسحة التأدُّب العالي.
إذا سلَّم العقلُ بأنَّ الأنبياء لهم مهارات وقدرات خاصة منها فهم لغات أخرى للمخلوقات، والملائكة يفوقوننا في القدرات الممنوحة، فماذا عن لغة الهدهد؟! بل اذهب إلى كتب الأدب والبلاغة وهي تكلمك عن كلام النملة كيف عبرت بلغة رائعة عن جيش سليمان النبي عليه السلام.
ما أجمل القصص القرآني! وما أعذب حواراته! وما أبلغ أسلوبه! يستصعب عقلي أن تكون كلُّ هذه المخلوقات -التي حكى القرآن عنها حواراتها- متحدثة ًبالعربية الفصحى، وتكون على هذه القدرة اللغوية العالية سواء على مستوى الداعية أو الطاغية، وفي حيِّز البشر أو الحيوانات أو غيرها.
تذكرتُ كلام أساتذتنا – رحمهم الله- عن الترجمة من لغة لأخرى، إذ لا تصلح الترجمة الحرفية، فهي تفسد عليك المعنى المقصود؛ فلابدَّ للذي يترجم من لغة لأخرى أن يصوغ بلغة سليمة في اللغة المنقول إليها، فما بالكَ لو كانت اللغة المنقول إليها هي العربية على ما لها من قدرات وبلاغة ودقَّة.
الإعجاز اللغوي في القرآن أمر ملحوظ؛ ولهذا أزعم أن جمال الحوارات وبلاغة الكلام مصدرها واحد هو الذي كسا الحوارات على تنوُّع أصحابها هذه العذوبة والرقيّ وتلك الرَّوعة غير المسبوقة في إعجاز النقل من لغات متنوعة بل وألسن متباينة، من أنبياء وملائكة وحيوانات وحشرات، وبشر منهم المؤمن المهتدي والكافر المعتدي.
حين قرأتُ في فترة الشباب كتاب "العبرات" للمنفلوطي كانت الدموع تكاد تفرُّ من عيني وأنا أقرأ هذه المأساة، ثم يتكرر التأثر مع القصة التي تليها، وهو كتاب لمجموعة من القصص المترجمة. فلقد صاغها المنفلوطي بعبارات بليغة جعلت القارئ يتعايش مع المأساة، ويبكي لها نظرًا لأسلوبه الساحر رغم أنه ليس المؤلف وإنما هو المترجم، إلا أنه أضفى بترجمته العالية وأسلوبه البلاغي الرائع ما لا أظنه موجودا في الأصل الغربي المنقولة عنه.
عادت الذاكرةُ من تطوافها إلى قصص القرآن الكريم مرة أخرى، فوجدتُ أننا نتعلمُ من القرآن ضرورة أن تكون الترجمةُ راقية المستوى لا حرفيَّة ولا ركيكة.