انزعجتُ من ألوان جدران عيادة الطبيب وطال انتظاري مع السكرتير الذي كان يضرب على هاتفه المحمول وبعد نصف ساعة خرجَ المريضُ من غرفة الكشف متأففا يقول لابنته: ربنا يستر، أنا مش مطمِّن.
أمسكتُ بمقبض الباب مسرعا، وأنا أدعو بالشفاء للمرضى. وفي حجرة
الكشف التي اتسعت بالكاد لي وللطبيب ومكتبه والمُكيِّف الذي يعلوه، وجدتُ مكتبة
صغيرة على الجدار الآخر فتعجبت وزاد من تعجبي عدم وجود أيٍّ من أدوات الأطباء التي
كنت أعرفُها فيما مضى "لعل المكان للحوار وهناك مُلحَق للكشف" هكذا قلت
لنفسي.
وصفتُ له آلامي، فقام وسحب كتابين من المكتبة أدركت بخبرتي أن
أحدهما قاموس، بحث عن توصيف لآلامي وغير الكتاب بآخر وبعدما يربو على ربع الساعة
انتهى من بحثه، وقال لي:أنا سأكون صريحا معك احتمال يكون عندك انفجار بالزائدة
الدودية، ثم فتح شاشة أمامه بمستكشف جوجل على صفحات لم أفهم منها شيئا حيث كان يبحث
عن كلمة إنجليزية نقل حروفها من الكتاب، ثم انتقل إلى شاشة المترجم وبحث عن كلمة
ثم أخرى ليعود إلى صفحاته التي فتحها. وأنا أنظر لما يفتحه من صفحات بحكم سابق
معرفتي بالحاسب، غير أني لم أفهم الكثير لأنها بالإنجليزية، لكن المترجِم الذي
يلجأ إليه وضَّحَ لي بعضَ ما غمض عليَّ، ووسط اهتمامي بما يخرج على شاشة الحاسب
خاصة في بحثه عن بعض مضادات الالتهاب انتبهت على صوته يقول: حالتـُكَ تحتاج لعملية
جراحية سأكتب لك بعض الأدوية، والمستشفى الخاص التي أقوم بالعمليات الجراحية فيه
ستدفع به الأحد القادم مبلغ الخدمة حسب عدد المرافقين، أما حسابي...
فقاطعته قائلا: دكتور قلتَ في بداية كلامكَ (احتمال) فماذا تقصد؟
مسح أسفل ذقنه الناعم قائلا: هناك احتمالات أخرى لا أتذكَّرها
الآن، لكني قلت لك ما رجَّحْتـُه بخبرتي العميقة في الطب فشهرتي معروفة؟ ثم ارتكن
على مسند كرسيه فاردا ظهره سائلا: هل تقدر على العملية الأسبوع القادم؟ وسمعت
صائحا بالخارج :الله يخرب بيته، هو فين؟ ثم هدأ الصوت.
كتمت غيظي من إحساسي بانتفاخ هذا الطبيب، وتساءلتُ: أقدر يعني إيه
يا دكتور؟
ابتسم قائلا: الفلوس تقدر تحولها على حسابي نهاية هذا الأسبوع؟
وتخلَّص حساب المستشفى؟ أنا مشغول جدا بعد ذلك.
فركتُ لحيتي البيضاء واتكأت على عصاي وابتسمتُ مُخفيًا حيرتي فهو
لا يعرف أني اقترضتُ لأدفع قيمة الكشف فكيف أدفع ثمن العملية التي يقول عنها؟ كما
أني لا أثق في كلامه أصلا؟! قلتُ له : إن شاء الله عاوز أطمِّن على حاجة يا دكتور.
ظهر الفرح على مُحيَّاه لكن تغيرت ملامحُه حين قلتُ: لماذا كنتَ
تبحث في الكتاب والقاموس ثم على الحاسب يا دكتور؟ هو سعادتك مش حافِظ أعراض
الأمراض وأسماء الأدوية وأثر كل حاجة على الجسم؟
انتفض قائلا: لولا إنك في سن والدي كنت وصفتك بالجاهل. زمن التعليم
بالحفظ والنطق دون بحث كان زمان، تعلَّمنا أنْ نفهم ونبحث عن المعلومة، ليه أتعب
في الحفظ وعندي وسائل البحث التي أتقن التعامل معها؟ البعد عن الحفظ يا سيد هو عصب
التعلم الصحيح، أنت عاوزني أضيَّع وقتي في حفظ كل الكلام الإنجليزي ده، والله لو
عربي حتى ما كنت حفظته! ثم إنت دخلك إيه؟ تفهم في الطب حضرتك؟! خذ رقم حسابي لما
تحوِّل المبلغ المكتوب هات الإيصال والسكرتير يعرفك تعمل إيه، مع السلامة. ومد يده
على ورقة مطبوعة ليناولني إياها.
"تذكرتُ أيام كنتُ أذهب للطبيب فيسمع شكواي ويضع سماعته ويقيس
ضغطي وأنا ممدد على سرير أبيض في عيادته ثم يكتب قائمة بتحاليل وفي نهايتها يكتب
اسم الأشعة المطلوبة و يكتب في ورقة أخرى أسماء الأدوية ومواعيد تناولها. كل هذا
من ذاكرته دون بحث في كتاب أو صفحات جوجل. وقتها كان أبي يخبرني أنَّ هؤلاء
الأطباء ليسوا كأطباء زمان لأن الطبيب لم يكن فيما مضى يحتاج كلاما أو تحاليل
وأشعات وإنما يفحصك بيديه وعينيه ويضغط بكفه بعض المناطق ويتسمع بأذنه ويقول لك
بعض الأعراض التي تفاجَأ بمعرفته أنها تنتابك دون أن تخبره، ثم يكتب لك اسم العلاج
إن لم يكتب نِسَبَ تركيبة الدواء للصيدلانيّ، وتفاصيل كل شيء من دماغه".
رأيتُ بالورقة التي ناولني أرقاما طويلة لم أعرف أيُّها المطلوبُ
دفعُه وأيُّها رقم الحساب غير أني لم أهتم ورميتُ بها على المكتب لكنَّ يدي
اصطدمَتْ بحافة الكرسيِّ فانتبهتُ من السَرَحَان في لجنة الامتحان "إتمام
شهادة الثانوية العامة" لأرى الطلابَ في حيرة يفتحون الكتبَ -المسموح لهم بها
وبكتابة ما يشاؤون فيها- باحثين عن حلول لأسئلة الاختبار.
وأنا أقول: لا حول ولا قوَّة إلا بالله.
الله الله
ردحذف